تواصل المملكة العربية السعودية خطواتها المتسارعة نحو تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، مدفوعة بنشاط عمراني غير مسبوق، وحركة تطوير شاملة تشمل المدن الكبرى والمناطق الواعدة على حد سواء. وسط هذه الطفرة العمرانية، تبرز أسعار مواد البناء بوصفها أحد المؤشرات الحيوية التي تعكس نبض السوق واتجاهات المشاريع الإنشائية، وخصوصًا في ظل ارتفاع الطلب وزيادة حركة التشييد والبناء.
في هذا السياق، أصدرت الهيئة العامة للإحصاء تقريرها الشهري عن متوسطات أسعار السلع والخدمات في المملكة خلال شهر مايو 2025، والذي سلط الضوء على تحركات أسعار المواد الأساسية في قطاع البناء، وفي مقدمتها الخرسانة، والأسمنت، والبلوك، والرمل. أظهر التقرير ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار الخرسانة بأنواعها المختلفة، وتباينًا واضحًا في أسعار منتجات الأسمنت، إلى جانب تقلبات طفيفة في أسعار الرمل والبلوك، مما يعكس ديناميكية السوق العقاري في المملكة، والتغيرات الاقتصادية المرتبطة بتكاليف المواد الخام والنقل والطاقة.
هذا المقال يستعرض بالتفصيل أبرز نتائج التقرير، مع قراءة تحليلية لأسباب هذه التغيرات، وتأثيرها المحتمل على السوق العقاري والمستثمرين، في ضوء التوسعات الحالية، والطلب المتزايد على المشاريع السكنية والتجارية والصناعية في مختلف مناطق المملكة. كما يسلط الضوء على أهمية متابعة أسعار الخرسانة والأسمنت والبلوك بشكل مستمر، بوصفها مكونات رئيسية لا غنى عنها في دورة حياة المشاريع الإنشائية.
ارتفاع أسعار الخرسانة – مؤشر على ضغط الطلب واتساع المشاريع
بحسب تقرير الهيئة العامة للإحصاء، فقد سجلت أسعار الخرسانة في المملكة ارتفاعًا شهريًا لافتًا خلال شهر مايو 2025، حيث بلغ سعر المتر المكعب من الخرسانة المقاومة بقوة 350 كجم/سم² حوالي 230.6 ريال، بزيادة نسبتها 2.1% مقارنة بشهر أبريل 2025. كما ارتفع سعر الخرسانة المقاومة بقوة 250 كجم/سم² إلى 209.9 ريال بنسبة نمو شهرية قدرها 1.9%، بينما بلغت الخرسانة العادية (250 كجم/سم²) نحو 201.3 ريال بزيادة قدرها 2%.
هذه الأرقام تُظهر أن هناك طلبًا متصاعدًا على الخرسانة الجاهزة، لا سيما في المشاريع الكبرى قيد التنفيذ، سواء كانت سكنية أو تجارية أو صناعية أو حتى بنى تحتية. وتُعد الخرسانة من المواد التي تتأثر سريعًا بعوامل السوق، مثل تكاليف النقل والوقود وتوافر العمالة وتكلفة المواد الأولية مثل الأسمنت والحصى والماء. كما أن تغيرات أسعار الطاقة في السوق المحلي تنعكس مباشرة على سعر إنتاج الخرسانة ونقلها، مما يؤدي إلى ارتفاع التكلفة النهائية على المطورين.
ومن جهة أخرى، فإن معدلات التوسع العمراني في مناطق مثل الرياض، جدة، المنطقة الشرقية، ومكة المكرمة تسهم في الضغط على المصانع والموردين لتلبية احتياجات المشاريع المتزايدة، مما يرفع من سعر الخرسانة نتيجة لزيادة الطلب مقابل العرض المحدود.
وقد أشار عدد من المقاولين والمطورين إلى أن هذا الارتفاع ليس مفاجئًا، بل كان متوقعًا في ظل الحركة النشطة التي يشهدها قطاع البناء والتشييد، بالتوازي مع قرب انطلاق مشاريع عملاقة جديدة ضمن برامج التحول الوطني، ومبادرات صندوق الاستثمارات العامة، التي تتطلب ملايين الأمتار المكعبة من الخرسانة سنويًا.
من الجدير بالذكر أن ارتفاع أسعار الخرسانة الجاهزة لا يؤثر فقط على تكلفة الهيكل الإنشائي للمباني، بل ينعكس كذلك على التكلفة الإجمالية للمشروع، بما في ذلك الجداول الزمنية والميزانيات، الأمر الذي يُحتّم على المطورين إعادة تقدير التكاليف بانتظام ومتابعة التغيرات السوقية لتجنب الخسائر أو التأخير في التسليم.
تقلبات في الأسمنت والرمل والبلوك – سوق مواد البناء تحت المجهر
فيما يتعلق بأسعار الأسمنت، فقد كشف التقرير عن تباين ملحوظ بين الأسمنت الأبيض والأسود خلال شهر مايو 2025. حيث انخفض سعر الأسمنت الأسود الوطني (وزن 50 كجم) بنسبة 1% تقريبًا ليسجل 15.8 ريالًا، وهو انخفاض طفيف لكنه يُعد مؤثرًا نظرًا لاعتماد معظم الإنشاءات على هذا النوع من الأسمنت.
وفي المقابل، ارتفع سعر الأسمنت الأبيض الوطني بنسبة 0.6% ليبلغ 38.3 ريالًا للكيس، وهو ما يعكس الفارق بين نوعي الأسمنت من حيث تكاليف التصنيع ودرجة الطلب. فالأسمنت الأبيض يستخدم غالبًا في التشطيبات المعمارية الخارجية والديكورات، ويحتاج إلى عمليات تصنيع دقيقة، مما يجعله أكثر عرضة للتأثر بتقلبات الإنتاج.
وبالإضافة إلى ذلك، شهدت أسعار الجبس الوطني (وزن 40 كجم) انخفاضًا بنسبة 2% إلى 16.1 ريال. ويرتبط انخفاض سعر الجبس بتراجع الطلب المؤقت، لا سيما في فترات ما قبل أو بعد الذروة في البناء، وقد يرتبط أيضًا بوفرة المعروض في السوق أو استقرار خطوط الإنتاج.
أما بالنسبة للرمل والبلوك، فقد شهدت الأسعار تغيرات طفيفة لكنها دالة على استقرار نسبي في السوق. فعلى سبيل المثال، سجل الرمل الناعم الأبيض انخفاضًا بنسبة 1.7% إلى 78.2 ريالًا، بينما ارتفع الرمل الأحمر بنسبة 1% تقريبًا إلى 38.5 ريالًا. ويُعد هذا التفاوت طبيعيًا في ظل اختلافات الاستخدام الجغرافي ونوع المشاريع، فالرمل الأبيض يدخل غالبًا في التشطيبات، بينما يُستخدم الرمل الأحمر في الخلطات الأسمنتية وأعمال الردم.
أما أسعار البلوك الأسود (1000 حبة)، فقد شهدت انخفاضًا طفيفًا بنسبة 0.1%، حيث سجل المقاس 15 سم سعر 1711 ريالًا، والمقاس 20 سم سعر 1756 ريالًا. ويُعزى ذلك إلى ثبات نسبي في الكلفة التشغيلية لمصانع البلوك، واستقرار في الطلب المحلي، خاصة مع تعافي جزء من الوحدات السكنية المكتملة التي تم تأجيلها في السنوات السابقة.
وتُعد هذه المؤشرات ذات أهمية كبرى بالنسبة للمستثمرين، إذ تمثل الكلفة الإنشائية المباشرة أحد العناصر الحاسمة في اتخاذ قرار الاستثمار، خاصة في المشاريع التي تعتمد على هوامش ربح ضيقة. كما أن هذا التباين يُبرز الحاجة إلى مراجعة العقود والميزانيات بشكل دوري، وتضمين بنود مرنة تسمح بالتعامل مع التغيرات السريعة في السوق.
خلاصة القول – مراقبة دقيقة لسوق البناء في ظل رؤية المملكة 2030
مع استمرار المملكة في تنفيذ مشاريعها الوطنية الطموحة، تظل أسعار مواد البناء في حركة دائمة، ترتفع أحيانًا بفعل الطلب المتزايد، أو تنخفض بفعل عوامل موسمية أو تراجع في وتيرة المشاريع. ويمثل شهر مايو 2025 مثالًا نموذجيًا على هذا التذبذب، حيث ارتفعت أسعار الخرسانة، بينما تباينت باقي المواد مثل الأسمنت، والرمل، والبلوك.
هذه التغيرات، وإن بدت طفيفة للبعض، فإنها تحمل دلالات اقتصادية مهمة، سواء فيما يتعلق بتأثيرها على تكاليف المشروعات، أو على ثقة المستثمرين في البيئة العقارية، أو حتى على قرارات التمويل والشراء لدى المواطنين والمستفيدين من برامج الإسكان.
ومن هنا، تأتي أهمية التقارير الدورية الصادرة عن هيئة الإحصاء، والتي تساعد المطورين والمقاولين والجهات التمويلية على اتخاذ قراراتهم بناءً على معلومات دقيقة وموثوقة، وبما يضمن كفاءة إدارة المشاريع وتفادي التعثر أو الخسائر.
كما أن هذه المؤشرات تؤكد على ضرورة اعتماد حلول مستدامة مثل تحسين كفاءة الإنتاج، وتبني التقنيات الحديثة في التصنيع والنقل، والاعتماد على الطاقة المتجددة لتقليل تكاليف التشغيل، مما يسهم في تثبيت الأسعار مستقبلاً، وتحقيق مزيد من الاستقرار في السوق العقاري.
ومع اقتراب إطلاق عدد من المشاريع الكبرى الجديدة في مناطق مختلفة مثل نيوم، ذا لاين، والقدية، يُتوقع أن يستمر الضغط على سوق البناء، ما يتطلب يقظة دائمة واستعدادًا دائمًا من جميع الأطراف المعنية لمواكبة المتغيرات والتحرك بمرونة عالية.