في عام 2024، لم تعد الإنترنت مجرد وسيلة تواصل أو ترفيه في المملكة العربية السعودية، بل أصبحت شريانًا رئيسيًا يضخ الحياة في مختلف مجالات المجتمع، بدءًا من التعليم والعمل وحتى العلاقات الاجتماعية والترفيه اليومي. وجاء تقرير "إنترنت السعودية 2024" الصادر عن هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية ليقدم صورة دقيقة وشاملة عن نمط حياة السعوديين الرقمية. لكن المثير في هذا التقرير ليس فقط الأرقام والإحصاءات، بل ما تكشفه هذه الأرقام من تحول جذري في سلوك الأفراد والمجتمع، وتبني متزايد لأدوات المستقبل.
![]() |
هيئة الاتصالات السعودية |
فحين يستخدم أكثر من 92% من السعوديين تطبيق "واتساب"، وتتصدر تطبيقات الفيديو والمحتوى التفاعلي مثل "يوتيوب" و"تيك توك" و"سناب شات" اهتمامات المستخدمين، فإن ذلك يعكس نمطًا ثقافيًا جديدًا بدأ يتشكّل بهدوء، ولكنه يؤثر بعمق في حياة المواطن. وفي ظل رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى التحول الرقمي الكامل وبناء اقتصاد معرفي، فإن هذه المؤشرات الرقمية لم تعد مجرد "اهتمامات شبابية"، بل تحولت إلى ركائز تنموية تؤثر على الإعلام والتعليم والأعمال وحتى السياسات المجتمعية.
من الدردشة إلى صناعة القرار
إذا أردنا أن نفهم كيف يؤثر الإنترنت على حياة السعوديين، فإن البداية لا بد أن تكون من تطبيق "واتساب"، الذي يستخدمه 92.2% من المواطنين. ما يميز هذا الرقم ليس فقط حجمه، بل التحول في طريقة استخدام التطبيق، حيث لم يعد مقصورًا على الدردشة بين الأصدقاء أو تبادل الصور العائلية، بل أصبح منصة للتنسيق الإداري، وإدارة مجموعات العمل، وتبادل المواد الدراسية، وحتى التنسيق لحملات تسويقية.
أما "يوتيوب" بنسبة استخدام 79.9%، فقد رسخ مكانته كمحور أساسي للترفيه والتعلم. القنوات التعليمية تزدهر، والمؤثرون السعوديون أصبحوا مرجعًا في مجالات مثل التقنية، الطبخ، الألعاب، والتربية. واللافت أن المستخدمين من مختلف الفئات العمرية باتوا يتعاملون مع يوتيوب كمنصة تعليمية ومصدر موثوق للمعلومة، مما يفتح آفاقًا جديدة لتوظيفه في التعليم والتدريب المهني.
أما "سناب شات" بنسبة 79%، و"تيك توك" بنسبة 74.6%، فهما يعكسان روح الشباب والابتكار. بينما يرى البعض أن هذه التطبيقات تركز على الترفيه، إلا أن المتابع الجيد يلاحظ تحولها إلى منصات للمحتوى التوعوي، والإعلامي، وحتى السياسي. الشركات السعودية تستخدمها للوصول إلى جمهورها، والمؤسسات الخدمية تقدم من خلالها رسائل توعوية، بل وأصبحت بعض الحملات الاجتماعية تعتمد عليها كمنصة رئيسية للتأثير المجتمعي.
وهنا يظهر البعد الأهم في هذا التحول الرقمي: لم يعد المواطن متلقيًا للمعلومة فحسب، بل مشاركًا في صناعتها. المواطن السعودي اليوم هو منتِج محتوى، ومساهم في صناعة الرأي، ومشارك في توجيه التفاعل الرقمي بما يخدم مصالحه وهويته الثقافية.
من الطفل حتى الستيني يعيش في الفضاء الرقمي
المثير في التقرير أنه لم يقدّم الأرقام مجردة، بل فصلها حسب الفئات العمرية، ما يكشف تنوعًا مذهلًا في استخدام الإنترنت في السعودية. فالفئة العمرية من 10 إلى 19 عامًا تتجه بقوة إلى "سناب شات" و"تيك توك"، مع استخدام نشط لـ"يوتيوب"، في حين أن فئة 20 إلى 29 عامًا تعتبر الأكثر ولاءً لـ"واتساب" بنسبة 94.5%، مع استمرارية في استخدام "سناب شات" و"تيك توك".
لكن المفاجأة أن الفئة العمرية من 30 إلى 49 عامًا لا تقل نشاطًا رقميًا عن الشباب، بل تتفوق في بعض التطبيقات. فعلى سبيل المثال، يستخدم 96.3% من الفئة بين 40-49 عامًا تطبيق "واتساب"، مع نسب قوية لـ"يوتيوب" و"سناب شات". وهذا يكشف تحول الإنترنت من أداة شبابية إلى ثقافة رقمية مجتمعية شاملة.
أما الفئات من 50 إلى 74 عامًا، والتي كانت تُعد سابقًا أقل استخدامًا للتقنية، فقد أثبت التقرير عكس ذلك. فالفئة بين 50-59 عامًا تستخدم "واتساب" بنسبة 95.1%، و"يوتيوب" بنسبة 75.8%، بينما الفئة من 60-74 عامًا لا تزال تستخدم "واتساب" بنسبة 85.1%.
هذا الحضور الرقمي القوي من مختلف الأعمار يفتح المجال أمام الجهات الحكومية والخاصة لتصميم خدمات رقمية شاملة تراعي احتياجات الجميع، سواء في التعليم، أو الصحة، أو الخدمات الحكومية، أو حتى الدعم الاجتماعي.
![]() |
تطبيقات التواصل الاجتماعي تتصدر الاستخدام الرقمي في المملكة |
اختلافات بين الجنسين تكشف فرصًا تسويقية جديدة لمن يحسن استغلالها
كشف التقرير أيضًا عن فروقات بين الذكور والإناث في استخدام التطبيقات، وهي فروقات تعكس ليس فقط اهتمامات مختلفة، بل أيضًا فرصًا تسويقية وإعلامية يمكن استغلالها. فبينما يتفوق الذكور في استخدام "واتساب" و"يوتيوب"، تتفوق الإناث في استخدام "سناب شات" و"إنستغرام".
هذه المعلومات تهم بشكل خاص القطاع الإعلامي، والمسوقين، ومطوري التطبيقات. فعندما تعرف أن النساء السعوديات يفضلن "سناب شات" بنسبة 86.3%، فإن أي حملة توعية أو منتج موجه لهن لا بد أن يضع هذه المنصة في مقدمة استراتيجيته. وكذلك الحال مع الشباب، الذين يظهرون ولاءً لـ"تيك توك"، مما يجعل أي جهة تستهدفهم بحاجة إلى وجود قوي ومحتوى مخصص على تلك المنصة.
الأهم أن هذه الفروقات لا تشير إلى انقسام أو عزلة رقمية، بل إلى غنى في السلوك الرقمي وتنوع في الأذواق، وهو ما يُثري المجتمع ويمنح صناع المحتوى والمؤسسات فرصة للإبداع والتخصيص.
السعودية ورؤية التحول الرقمي: أكثر من مجرد استخدام
ما يظهر جليًا من تقرير "إنترنت السعودية 2024" أن التحول الرقمي في المملكة لم يعد فقط "تحولًا في عدد المستخدمين"، بل هو تحول في أنماط الحياة، وفي طريقة فهم المواطن لدوره في العالم الرقمي. وهذا ينسجم بشكل مباشر مع رؤية السعودية 2030، التي تسعى إلى بناء اقتصاد رقمي متكامل، وتعزيز البنية التحتية الرقمية، وتمكين كل فئات المجتمع من الاستفادة من التقنية.
عندما يصبح الإنترنت جزءًا من التعليم، والتوظيف، والإعلام، والترفيه، والخدمات الحكومية، فإننا نتحدث عن مجتمع جديد يتشكل بالفعل. واللافت أن المملكة لم تكتفِ بتحقيق نسب استخدام عالية، بل تعمل حاليًا على تطوير تقنيات متقدمة في الذكاء الصناعي، وإنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، وغيرها من المسارات التي تمهد لبناء اقتصاد معرفي قوي ومستدام.
الختام: لماذا يجب أن نهتم بهذا التقرير؟
ليس مجرد تقرير إحصائي أو لوحة أرقام، بل هو مرآة لحياتنا الرقمية في المملكة، وتأكيد على أننا كمجتمع نسير بخطى واثقة نحو المستقبل. يكشف تقرير "إنترنت السعودية 2024" عن مدى عمق التأثير الرقمي في كل تفاصيل يومنا، من العمل إلى الترفيه، ومن التعليم إلى التواصل الاجتماعي.
ومع استمرار تسارع التحول الرقمي، تصبح هذه الأرقام دليلك لفهم السوق، وسلوك الجمهور، وطبيعة التفاعل مع التقنية. لكل صانع محتوى، ومسؤول حكومي، وصاحب مشروع، وحتى للأسر السعودية، يقدم هذا التقرير خريطة دقيقة تساعدهم على الانخراط الواعي في عالم رقمي متجدد. السعودية ليست فقط مستهلكة للتقنية، بل باتت اليوم من صانعي هذا المستقبل.